السبت، 26 أكتوبر 2013

حضارة الأجناس البشرية المنقرضة _1




حضارة الأجناس البشرية المنقرضة
الباحث/ عباس سبتي
مارس 1997م

ملخص:
     يختلف مفهوم التاريخ من عالم إلى آخر ومن عصر إلى عصر ، ولو أن الأكثر اتفق على ان التاريخ عبارة عن صناعة الإنسان لأحداث مر بها أو تفاعل معها  ، أو دونها ولو ان التدوين لم يبدأ مع عصر الكتابة أو عصر التاريخ ، وإنما بدأ مع الإنسان الأول الذي سجل ملاحظاته وأفكاره سواء على شكل رسوم وخطوط او صور أو رموز كتابية .
     ولعل الإنسان الحديث هو الذي حفظ تاريخه وتاريخ من سبقه من خلال التشريعات التي نزلت من السماء وحديث تطور في " التاريخ " جاء بعد أن اهتم الإنسان بفلسفة التاريخ التي رسمها المصلحون لأقوامهم للاستفادة من سنن التاريخ ، وأكد الباحثون والكتاب على هذه السنن كما فعل ذلك ابن خلدون في كتابه " العبر " وجاء المفكرون الغربيون بعده بنظريات علمية تفسر هذه الفلسفة .
     جرت محاولات من جانب الأنثروبولوجيين لاكتشاف انواع الأجناس البشرية المنقرضة وتاريخها وحضارتها فهناك إنسان " جاوة " وإنسان " بكين" وإنسان " النياندرتال " والإنسان العاقل ، كانت الأجناس البشرية السابقة تؤمن بالعقيدة او الدين حيث مرت العقيدة بعدة مراحل :
     مرحلة الفطرة التي جعلت الإنسان الأول يعتقد وجود قوة غيبية يلتجأ إليها في أوقات الشدة والخطر ، ومرحلة العقل بعد تطوره خاصة في عصر إنسان " بكين " والاتصال بالأجناس التي سبقته بهدف زيادة النسل ، ومرحلة النبوة منذ (100) ألف سنة من خلال الأدلة كفن الموتى وترك الحلى وغيرها مع الميت مما يدل على إيمانه بالبعث .
     يتناول البحث عصر الأجناس البشرية المنقرضة من خلال العلاقة بين الخالق والمخلوق وتتمثل العلاقة بعمارة الأرض وإقامة المدنيات .

المقدمة :
     الإنسان صانع تاريخه وصانع مستقبله ، من هذه الجملة أحاول أن اعطي مقدمة لهذا البحث الذي يتناول التاريخ كمفهوم إسلامي بعد ظهور تفاسير غربية حاولت أن تعطي للأجيال مفهوما بعيدا عن واقعهم وعن عقيدتهم وذلك في غياب المفهوم الإسلامي للتاريخ غيابا تاما او شبه تام ، المفهوم الإسلامي للتاريخ عبارة عن امنية لدى بعض المؤرخين وأساتذة الجامعات وقد تكون هذه الأمنية على شكل " محاضرة " او تكون بتأليف " كتاب" يخصص فصلا منه لطرح المفهوم الإسلامي للتاريخ ، وقد يرجع هذا الغياب أيضا ما يتعلمه الأبناء في الجامعات من خلال المنهج الدراسي الذي يكون في الغالب عبارة عن منهج غربي لا يعطي للإسلام وضعا طبيعيا في العلوم الإنسانية  وبالتالي أصبحت الأمة المسلمة عالة على الغرب تلتمس منه درب المستقبل لأنها امة فقدت شخصيتها العلمية وأصالتها التاريخية ، بينما كانت هذه الأمة قد كونت نفسها وتاريخها ومستقبلها من خلال فترات مرت مر السحاب وأخذت تقلد الأمة بعد ذلك كي تحيى من جديد فقلدت الغرب وأخذت منه العلوم المادية والإنسانية في الجانب النظري خاصة  القرن التاسع عشر الميلادي وأصبحت لا تنتمي إلى الإسلام إلا اسما ولا تنتمي إلى الغرب إلا شكلا وفي نفس الوقت تريد أن تأخذ منه المادة والجوهر معا لخلق المستقبل والمصير .
     كيف أصبحت هذه الأمة مع كثرة عدد أفرادها ومواردها لا تشكل ثقلا في الميزان الدولي ؟ ذلك بسبب تبعيتها للغير فلا هي تستطيع اللحاق بالغرب بسبب تأخرها العلمي والتكنولوجي ولا هي تستطيع أن تقدم شيئا مهما للإنسانية ، فهل آن الأوان أن نرجع إلى تاريخنا كأمة لا  لتعيش الذكريات الماضية كلما ألمت بنا الازمات ، بل لنأخذ تاريخ الماضي معلما نضيء درب المستقبل ونصنع تاريخنا لنكون امة " شاهدة " ورائدة مثلما كان الأجداد .
     صناعة التاريخ ( المستقبل)  لا تعني أن نقدم شيئا جديدا ينتفع به الآخرون فقط وإنما المستقبل عبارة عن قطعة من الزمان متصلة بالقطع الأخرى أي أن البشرية تسير في خط واحد تنظر إلى الأمام وتخزن أصداء الماضي في ذاكرتها لتستفيد منها في الحاضر والمستقبل .
الكويت 20/3/1997م

الفصل الأول :
مفهوم التاريخ – تدوينه – فلسفته – تقسيماته

مفهوم التاريخ :
     التاريخ علم من العلوم الإنسانية لازم الإنسان في أقدم عصوره ، صحيح لم يعرف الإنسان هذا العلم إلا حديثا إلا أنه صنع هذا العلم وولد معه سواء شاء أو أبى ، والأجناس البشرية جنس قائم بذاته يختلف عن بقية الأجناس الحيوانية ، فالحيوان لم يحفظ تاريخه ولا يعرف ماضيه بل سجل الإنسان ملاحظاته عن الحيوان فعرفنا تاريخ الحيوان من خلال تاريخ الإنسان .
     مع التسليم بوحدة تاريخ البشر إلا أن الآراء تعددت في مفهوم التاريخ ومرد ذلك قد يرجع إلى اختلاف الأزمنة والأمكنة وبالتالي إلى اختلاف آراء الناس ، فمرة يطلق على التاريخ كمفهوم أنه عبارة عن سرد الحوادث سردا قصصيا لأن الإنسان عرف بحبه الحكايات والقصص خاصة القديمة منها لمعرفة ماضيه ولتسلية حاضره ، ومرة المفهوم عبارة عن حادثة مهمة في حياة الناس فتأخذ كأساس لتسجيل بداية تاريخ الأمة أو تميز حوادث مهمة تحياها الأمة جيلا بعد جيل .
     عند المؤرخ ( هيرودت) مفهوم التاريخ عبارة عن بحث وتحقيق ومعرفة ما يحصل عليها الباحث بالبحث والتحري ، ومرة يكون المفهوم عبارة عن إجابة لسؤال هو : ما جدوى درس التاريخ القديم ؟ وقد تكون الإجابة تطور قصة الإنسان منذ أقدم عصوره وفهم حاضره وما وصل إليه والتاريخ عبارة عن ذاكرة للجنس البشري
في العهد الإسلامي أبان حضارة الإسلام وازدهارها أخذ التاريخ دوره كعلم بين العلوم واهتم به العلماء من جيل إلى جيل فاختلف في مفهوم التاريخ من زمن إلى آخر ومن عالم إلى آخر ، فعند المسعودي التاريخ عبارة عن علم يستمتع به العالم والجاهل ( مروج الذهب ) وعند المقريزي التاريخ فيه تتهذب النفس وتروض الأخلاق ( الخطط ) وعند الجبرتي التاريخ عبارة عن العظة والاعتبار وبه يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار ( عجائب الآثار في تراجم الأخبار ) .
     في العصر الحديث اختلف مفهوم التاريخ من مؤرخ إلى آخر لكن عند معظم المؤرخين التاريخ عبارة عن حركة اجتماعية ناتجة عن فعل الناس أكثر من فعل الساسة ، وعند ( الداروينية ) عبارة عن الصراع من أجل البقاء ( تطور الأجناس ) وعند المؤرخ عبدالحميد الصديقي هو حركة الإنسان لطلب السعادة ( تفسير التاريخ ) .
     من هذه الآراء يمكن القول أن التاريخ عبارة عن تفاعل مكان ( ساحة ) + زمان + إنسان ، بمعنى أن وجود الإنسان على الأرض وإخضاعه لمواردها يعني أنه سجل اعماله وبالتالي حصلنا على تاريخ مدون ، ويمكن القول أيضا أن التاريخ عبارة عن تفاعل الإنسان مع بيئته ( الطبيعية ) باستخراج قوانينها كالتسخير كما في المفهوم القرآني (1) وعلاقة الإنسان بربه وبالكون ومعرفة سنن وقوانين الطبيعة التي أودعها الخالق كي يستفيد منها المخلوق .

تدوين التاريخ:
     إذا بدأ التاريخ مع الإنسان فما معنى القول أن هناك عصورا قبل التاريخ وعصورا بعده ؟ أو القول ان الإنسان عندما عرف الكتابة ؟ إن معرفة الكتابة شيء والتاريخ شيء آخر  ، ويمكن القول أن عصر الكتابة جزء من تاريخ الإنسان  ، يقول د. عبدالحميد زايد في كتابه ( مصر الخالدة) : الكتابة ليست الوسيلة الوحيدة لمعرفة التاريخ ، وإنما التاريخ يشتمل على الأمور السياسية والآثار الحضارية والثقافية (2) .
     ذكر المؤرخون أن الإنسان عرف الكتابة حوالى ثلاثة آلاف سنة ق.م وبالتالي عرف تاريخه المدون بدقة (3) هذا القول لا يمثل حقيقة لعدة أسباب منها أن حضارة (دور العبيد ) التي كانت سائدة في العراق منذ خمسة آلاف سنة ق.م احتوت سجلاتها على أسماء المدن   ، ومنها في العصر الحجري القديم والحديث عبر الإنسان عن أفكاره ونقش صوراً في الكهوف مما يدل على تدوينه لتاريخه ومعرفة أنواع الحيوانات المعاصرة له ، ومنها ان المصريين القدماء قد عرفوا علم الفلك في سنة (4226) سنة ق.م وأن أقدم بيان بالسنين بدأ في عام (3400) ق.م على حجر (بالرمو) ، وبدأ ( دور الوركاء ) و( جندة نصر ) وهما من الحضارات القديمة في بلاد الرافدين منذ (3500ق.م ) كذلك تعليم أبي البشر الأسماء في قوله تعالى :" وعلم آدم الأسماء كلها " (4) ويقال أن أول من خط بالقلم هو النبي إدريس في حدود (4300ق.م (5) .
     إذن هذه الأدلة التاريخية شواهد عدم ضبط عصر الكتابة في وقت معين ، وإذا أردنا الصواب نقول أن معرفة الإنسان الكتابة بدأت مع خلق بداية البشر وليس في حدود (300) ق . م .
     على أي حال تدوين الإنسان تاريخه يتم على أساس ما تركه الإنسان من آثار مادية او نقوش ورموز توحي أنه عرف الكتابة وأنه ضبط تاريخه ومتى وجد على الأرض ، وإن تاريخ النبوات  هو الزمن الفاصل بين إنسان سيطر على بيئته ودون تاريخه وحفظه وبين إنسان صمد أمام الكوارث الطبيعية ليعيش ويثبت وجوده بالكاد ولعل حضارة ( دور العبيد ) توحي لنا كدليل تاريخي على أنه أقدم أثر لمعرفة إنسان هذه الحضارة الكتابة ، إن الخط المسماري الذي ظهر في حضارة السومريين يرجع إلى (3500) ق .م وهناك خط شبيه له أو مقارب له في حضارة حضرموت ، ولا استبعد أن هناك أصلا واحدا لهذين الخطين وبما أن عصر بعد الطوفان كان في حدود تلك السنة فأن الخط المسماري كان موجودا أيام نوح وذريته على الأقل قبل الطوفان ، وأن قوم عاد الذين خلفوا قوم نوح كما يشير القرآن الكريم عرفوا هذا لخط في حدود (3000) ق.م .
     انتشر تدوين اللغة السومرية في حدود (3000) ق.م وما بعدها وما تركه الإنسان على ألواح الطين ، ولكن انقرضت هذه اللغة وطى الزمان عليها الزمان حتى لم يعرف شيء عن السومريين حتى القرن الثامن عشر الميلادي عندما حاول الباحثون كشف رموز هذه اللغة (6) مثلما حلوا رموز اللغة المصرية القديمة بعد العثور على حجر رشيد ، واستدل المؤرخون على وجود حضارة عريقة في وادي النيل (7) كان دور الكهنة في مصر القديمة بارزاً في عملية تطوير الكتابة ، حيث أن هؤلاء كانوا على درجة من الثقافة والعلم بحكم مركزهم وما يتطلبه العمل الكنهوتي من تسجيل واردات دور العبادة ومصروفاتها وعلاقة رجال الساسة بالكهنة التي رصدت في السجلات الرسمية (8) .
     وكان دور المؤرخين القدامى واضحا في تدوين التاريخ وحفظه للأجيال ، فهذا ( هيكانة الملتي ،   Hecatee De Mitt    )  من القرن السادس قبل الميلادي ، زار مصر وتحدث عن فيضان وحيوانات مصر وكيف أن الكهنة أمدوه بمعلومات تاريخية ، و(هيرودت Herodote   480-425ق.م ) أول من استعمل كلمة ( Historia   ) للتاريخ وله كتاب يعد من أقدم مصدر تاريخي ، و(زنيفون  430-355 ق.م  ) و ( مانيتون 323-245ق.م ) و( استرابوا 64 ق.م -19م ) و( ديودور الصقلي ) و ( بلوتارخ الروماني ) و ( جوزيف اليهودي ) وغيرهم من الرحالة والسياح الذين ساهما في وضع قواعد التاريخ القديم (9) .
     هذا ولا ننسى دور المؤرخين المسلمين الذين كان لهم دور في تدوين تاريخ الخليقة وتاريخ عصور الدويلات الإسلامية ، فهناك من كتب السيرة النبوية مثل ( ابن اسحاق ) الذي اعتمد على مادته التاريخية على (الزهري) المؤرخ المشهور وعلى الإسرائيليات والقصص الشعبية ، و( ابن هشام ) كتب في السيرة النبوية ، و( عروة بن الزبير  ت94هـ ) أول من تناول غزوات النبي (ص) و( أبان بن عثمان ت95هـ) و ( شرحبيل بن سعد ت 133هـ ) ثم جاء بعدهم ( الواقدي وابن كثير وابن سعد ) وظهرت طائفة من الإخباريين مثل أبي مخلف الكوفي ت 175هـ الذي كتب بداية التاريخ البشري حتى نهاية عصر الأمويين ، وعانة بن الحكم ت147هـ وسيف بن عمر ت180هـ ونصر بن مزاحم 212هـ والمدائني 135-225هـ وهو أشهرهم الذي كتب من عهد الرسول (ص) حتى إلى فترة عصر العباسيين ، وظهرت طائفة من المؤرخين المسلمين في القرن الثالث الهجري كتبوا ما يسمى ( التاريخ العالمي ) أي من الخليقة وحتى العصور الإسلامية مثل البلاذري ت279هـ وكتابه فتوح البلدان واليعقوبي ت284هـ وكتابه البلدان أو ما يسمى بتاريخ اليعقوبي  وهو يعبر عن فكرة التاريخ العالمي وابن قتيبة ت270هـ وكتابه المعارف وهو أول من رجع إلى كتاب العهد القديم ( التوراة ) لبدء الخليقة وتاريخ الأنبياء واليدنوري 282هـ وكتابه الأخبار الطوال والطبري ت310هـ وكتابه تاريخ الرسل والملوك (10) .
     في العصور الوسطى عندما كانت الكنيسة مسيطرة على حياة أوربا العامة اتجه تدوين التاريخ نحو خدمة الكنيسة وترسيخ العقيدة المسيحية ومحاربة اعداء الكنيسة ، فظهرت طائفة من أنصار الكنيسة روجت نظرية العناية الإلهية والتي تقول :" التاريخ مسرحية ألفها الله ويمثلها الإنسان " وأشهرهم هو سان أوغستين الذي عاصر فترة انتشار المسيحية في أوريا أواخر الأمبراطورية الرومانية (11) ولكن شهدت أوربا عصرا نقيضا لعصر الكنيسة الوسيط وذلك في بداية القرن الخامس عشر الميلادي على الرغم من ان هناك كتابات حديثة قد ظهرت في القرن الثاني عشر وهي تمثل خصائص عصر النهضة الأوربية الذي بلغ أوج نشاطه في القرنين السابع عشر والثامن عشر عند ظهور عصر التنوير وضعت القواعد والمناهج لدراسة العلوم الطبيعية الإنسانية (12) .
     بعد تطور علم التاريخ كعلم من العلوم الإنسانية تغير مفهوم التاريخ فلم يعد يقتصر على دراسة الماضي بل شمل الحاضر والمستقبل ، وظهرت فلسفة التاريخ بعد دراسة الحضارات البشرية و أول من استخدم هذا المصطلح هو (فولتير ) (13) ولكن الحقيقة تقال ان ابن خلدون هو اول من نبه إلى دراسة تتابع وتطور الحضارات في كتابه ( العبر ) وهو أول من صاغ هذا المصطلح ومصطلح العمران وعلم الاجتماع (14) وظهر هيجل الفيلسوف الألماني صاحب كتاب ( محاضرات في قلسفة التاريخ ) الذي تناول التاريخ العام أي تاريخ الإنسان والتطور الحضاري ويقصد بذلك دراسة فلسفة التاريخ من خلال فكر الإنسان الذي يميزه عن الحيوان .
     في القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين الميلادي ظهرت كتابات تنم عن التشاؤم للحضارة الإنسانية وبالذات الحضارة الغربية المعاصرة بسبب طغيان المادة على حساب الأخلاق والروح وبسبب ثورات مؤثرة اجتاحت المجتمع الإنساني أنذاك ، فهذا ( شبنجر  1880-1936م) في كتابه ( انحلال الغرب ) يصور المراحل التي تمر بها الحضارة ، وأن نهاية كل حضارة فناء بعد أن شهد ويلات الحرب العالمية الأولى في أوريا ، وهذا كتاب ( دراسة التاريخ A Study of History    )  لارنولد توينبي   Arnold Tonbee   الذي قرأ كتاب ( انحلال الغرب ) وتأثر بويلات الحرب العالمية الأولى والثانية وما سوف يؤدي ذلك إلى فناء الحضارة الغربية ، وأن الحرب النووية المقبلة سوف تقضي على هذه الحضارة ، والحل في نظره العودة إلى روح الدين والأخلاقيات ( 15) .
     كتابات العصر الحديث عن التاريخ وفلسفته تأذن بنهاية الحضارة الغربية ، وتحاول هذه الكتابات  معالجة الأوضاع المتردية وإنقاذ الحضارة من السقوط وذلك بتغيير النفوس وطرح القواعد الأخلاقية وهذا من وظيفة المؤرخ .
     وأخيراً لا بد من الحديث عن مصادر التاريخ وكيف يكون المؤرخ مادته العلمية عندما يدون حقبة من حقب التاريخ ، يكون الحديث أو الكتابة عن الأقوام البدائية  والأجناس المنقرضة والشبه المنقرضة ناقصاً وذلك لعدم توفر مادة مكتوبة ، ولذلك يعتمد المؤرخ على ما تركته  هذه الأجناس من آثار مادية ( أدوات حجرية – أدوات زينة – ملابس -عظام إنسانية وحيوانية – رسوم ) والاعتماد على هذه الآثار المادية لا يكفي لذا على المؤرخ أن يفترض افتراضات علمية لسد النقص والثغرات مما يؤدي إلى عدم إعطاء الصورة الصحيحة والكاملة عن فترة وتاريخ العصور البائدة ، لكن بعد الكشف عن الآثار المكتوبة حوالى (5000) ق.م التي افترضناها في الصفحات السابقة حصل المؤرخ على مادته التاريخية .

يمر المؤرخ بمراحل قبل ان يخرج مادته التاريخية وهي:
1- مرحلة جمع المصادر والوثائق والآثار المادية .
2- مرحلة النقد : مدى صحة المصادر والوثائق ومدى مطابقتها إلى الحقيقة والواقع .
3- مرحلة التأليف بين الحقائق وتركيبها وجمعها والاجتهاد وذلك نتيجة وجود تغرات يجب ملؤها .
4- مرحلة التدوين والتأليف وذلك بالطرق:
     أ) الحوليات أي سنة بعد سنة .
     ب) يبدأ ببدء الخليقة كما في الكتب الدينية .
     ج) عرض الحوادث على شكل قصة .

ويستعين المؤرخ بالمصادر التي تساعده على كتابة مادته التاريخية وهي :
1-   الآثار المادية مثل الحجارة – الخشب- المعن – أدوات الزينة ...ألخ .
2- الآثار الكتابية او المكتوبة وهي السجلات والوثائق المدونة على ألواح الطين و الحجر وورق البردى والجلد والعظم .
3-   الكتب الدينية : التوراة والإنجيل والقرآن الكريم .
4-   كتابات المؤرخين القدامى مثل هيرودوت وغيره .
5-   كتب الرحالة والسياح .
6-   معرفة اللغات المنقرضة مثل الهيروغليفية والسومرية  (16) .

فلسفة التاريخ:
     ظهرت فلسفة التاريخ كفرع من فروع دراسة علم التاريخ حديثاً على الرغم من أن هذا العلم له جذور إسلامية ، لم يعد التاريخ سجلاً لحوادث الماضي وذكر أعمال الساسة القادة العسكريين فقط وإنما دراسة التاريخ تتم على ضوء المعطيات الإنسانية ، من خلال ما يسمى بالحركة الاجتماعية حيث لا يغيب عن بال المؤرخين بمعنى ألا يقتصر حديثهم عن ذكر سير الملوك والعلاقات الدولية بل أيضا دراسة حركة الشعب ودراسة سير النوابغ وما تركوه من آثار روحية و مادية في المجتمع .
     تعنى فلسفة التاريخ دراسة الحضارات وتقويمها والاستفادة م تجاربها ، وقد اطلق مفهوم " فلسفة التاريخ " فولتير الفرنسي في القرن الثامن عشر الميلادي إلا أن ابن خلدون يعتبر أول من تناول دراسة الحضارات دراسة وافية وأسس علم الاجتماع فهو يعتبر من واضعي فلسفة التاريخ على الرغم من ان هذه الفلسفة ظهرت كعلم قائم في العصر الحديث ، وبالذات في عصر التنوير في أوربا ، وبما أنا ذكرنا ابن خلدون فلا بأس بالإشارة إلى نظريته في مفهوم الحضارة وتعاقبها ، فهو أول من نبه إلى دراسة الحضارات دراسة كلية واستخراج قواعد ( عبر ) أو سنن تاريخية كما في المفهوم الإسلامي .

قسم ابن خلدون الحضارات إلى ثلاثة اطوار :
1- طور البداوة : عبارة عن حياة سكان البادية والصحراء ووجود الأعراف والعادات ورابطة الدم التي تربط أفراد القبيلة الواحدة وشيخ القبيلة الذي يمثل رأس الهرم القبلي .
2- طور الحضر : بداية وجود الدولة بعد الاستقرار أو الغلبة أو الفتح ووجود عامل الدين هو الأقوى من رابطة الدم .
3- طور التدهور : يبدأ بعد الإسراف والترف اللذين يعمان طائفة معينة من الناس وينتشر الظلم الاجتماعي ويطمع الجياع بمهاجمة الدولة ( ثورة الفقراء ) .

     لقاد ساهم علماء عصر التنوير في تطوير مفهوم فلسفة التاريخ ، حيث ظهرت نظريات في هذه الفلسفة مثل نظرية العناية الإلهية ونظرية التقدم وفعل الإنسان التي تقول بتقدم ودورالعقل الإنساني ويركز أصحاب هذه النظرية على تاريخ الفكر ( العلماء ) وليس على تاريخ الساسة والقادة العسكريين ، واستمرت هذه النظرية طوال القرن اتاسع عشر الميلادي ( 17) .
     يعتبر فولتير أحد انصار هذه النظرية ونادى بالاهتمام بالحضارات بدلاً من سير الملوك والقادة وانه يجب توسيع دائرة التاريخ لتشمل العالم كله بدلاً من أوربا ، ويقيم احداث التاريخ الأوربي والاستفادة من عوالم القوة وترك عوالم الضعف  وينتقد القصص التي ذكرها كتاب العهد القديم وينتقد الحضارة العبرية ، ويقول عن اليهود انهم ليسوا شعب الله المختار كما ادعوا ، ورفض نظرية العناية الإلهية في تسييرحركة التاريخ مدعياً ان الله ( تعالى ) منح الإنسان العقل حيث يستطيع بواسطته ان يتقدم نحو الأفضل في العلوم وغيرها (18) .
     يعتبر هيجل ممن أرسى قواعد فلفسة التاريخ بعد عصر التنوير ، وترجع فلسفته  إلى ذكر المتناقضات حيث أم كل شيء يحتوي على تناقض داخلي ويظهر الصراع بين المتناقضات إلى ان تتطور الروح المطلقة أي الروح المحركة لهذا العالم من النظام الفلسفي ، وأن للتاريخ ظاهراً وباطناً ظاهره عبارة عن الوقائع التاريخية التي تكون في حالة فوضى دون هدف وباطنه الروح التي تسيير العالم نحو اهداف معقولة ، ويعتبر التاريخ انه لا يدرس الماضي فقط بل يهتم بالحاضر من خلال فلسفته ولا يقيم للمستقبل وزنا (19) .
     نظرية التحدي والاستجابة ( Challenge and Respose    ) ترجع إلى ارنولد توينبي المؤرخ المشهور الذي ألف كتاباً موسعاً في فلسفة التاريخ وهو ( دراسة التاريخ ) ، تناول دراسة (21) حضارة قديمة وحديثة ، ويرد الحضارات إلى عامل الدين ويرفض فكرة عالمية الحضارة او وحدتها لأن لكل حضارة عاملاً مستقلاً لا تمت بصلة بحضارة أخرى ، ويقول أن عامل البيئة وحده لا يكفي لنشوء الحضارة ولا  عامل الجنس ( العرق ) دليل على قيام الحضارة ، وإنما تقوم الحضارة في بيئة صعبة فيظهر التحدي من قبل الإنسان والاستجابة من قبل البيئة ، وأما سبب انهيار الحضارة فليس مرد ذلك إلى رأي شبنجلر ( Spengler  ) الذي يقول ان الحضارة تمر بمراحل الطفولة والشباب والشيخوخة والفناء ، ولا إلى رأي ابن خلدون السالف الذكر ، وإنما هو فقدان الأقلية الحاكمة للطاقة المبدعة فيها فتحكم بالقهر وبالتالي ينهار المجتمع من الداخل ويمكن أن تقف طاقات المبدع عند حد معين ويقاوم ظهور مبدع جيد أو يعادي الأقلية المبدعة ، فيظهر الصراع بينهما فيؤدي إلى التوسع الحربي لتهدئة الأوضاع وبالتالي إلى الانتحار والفناء ( 20) نكتفي إلى هنا بهاتين النظريتين .

التفسير الإسلامي للتاريخ :

هل القرآن كتاب تاريخ ؟
     إذا أجبنا عن هذا السؤال ب (نعم ) فقد جنينا على القرآن ، وإذا كان الجواب ب (لا) فما معنى وجود كثرة من الآيات التي تذكر تاريخ الأمم السابقة وان هناك سنناً للتاريخ ، يأتي الحل الوسط هو ان القرآن كتاب هداية أي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وأن الآيات التي تطرح سنن التاريخ لا تخرج عن وظيفة القرآن بمعنى ان معرفة سنن التاريخ ودراسة الأمم السابقة تجعلان الأمة المعاصرة لنزول القرآن بل والأمم التي جاءت بعدها تسير في ضوء الهداية الإلهية إذا أرادت هي ذلك ، وهذا يجعل الساحة التاريخية بارزة في القرآن بشكل واضح والقرآن يتناول حركة الانبياء وأقوامهم وهلاك أقوام وولادة أقوام وهو يطرح السنن التاريخية ، وهذه السنن ثابتة تجد الثبات في سنن التاريخ كما في السور : الأحزاب آية 62 ، فاطر آية 43 ، الأنعام آية 23 ، الأسراء آية 77، الكهف آية 55 ، الفتح آية 22 و23 ، آل عمران آيات : 137-141 ( 21) وهذا الثبات في السنن يجعل البشرية تلتفت إلى ما يؤول مصيرها والاستفادة من هذه السنن ونظرتها المستقبلية على ضوء حاضرها ( 21) .
     الزمان وأبعاده الثلاثة : الماضي – الحاضر- المستقبل يمثل فهمنا لحركة التاريخ وإلا يصبح التاريخ في طيات الكتب ، كذلك العرض القصصي في القرآن يوحي بأجواء تاريخية هادفة والتركيز على النتيجة او العاقبة أكثر من التركيز على الزمان (كوحدة ) أو على الأشخاص ، ولهذا السبب فأن جل المفسرين والمؤرخين الإسلاميين اعتمدوا على التوراة والإنجيل في سد الثغرات الزمانية والمكانية والشخصيات التي لم يجدوها في القرآن ، مع ان القرآن يفند مزاعم العهدين القديم والجديد التي تقول ان الأنبياء كسائر البشر خطاؤن يمارسون الفاحشة مع أقرب الناس إليهم ، وهذا بدوره يعطي للقرآن دوره كسند تاريخي وهو يعرض سير الصفوة المختارة من الناس طالباً تحري الحقيقة ودفع الإفتراءات والأباطيل عن هذه الصفوة .

التراث ألتاريخي قصة خلق آدم :
     ركز القرآن الكريم على قصة خلق آدم (22) وما تبعته من احداث كي يطرح الانتماء البشري ووحدة الجنس ووحدة الهدف والتاريخ ، ويبين دور الإنسان على الأرض ( الخلافة والاستخلاف وعمارة الأرض ) وإن للإنسان مسئولية عمارة الأرض بما وهبه تعالى من القدرات وما سخر له من قوانين وسنن كل ذلك كأساس لحركة التاريخ (23) .
     فالإنسان خلق من تراب ومن روح وهذان النقيضان سبب الفعل الإنساني ونتيجته سواء الإيجابي منه أو السلبي ، لكن ليس كما ذهب اصحاب نظرية العناية الإلهية ان الخالق يتحمل هذا الفعل الإنساني  وبالتالي جرد ت هذه النظرية مسئولية الإنسان عن فعله ، بل أراد الخالق أن يتغلب الإنسان على نواحي ضعفه من تركيبة ( التراب ) ويستعين بقوة ( الروح ) عن طريق ارتباطه بخالقه وبخط أنبيائه ورسله ، مع ترك للإنسان حرية الإرادة والمسئولية في رسم طريقه حتى يحس بوجوده فيدرك أنه ضعيف ومحتاج إلى من يساعده في هذا الكون الفسيح وهذا ما عبر عنه القرآن بالفطرة ، ويجعله هذا الضعف يدرك أن عليه ان يستعين  بخالقه ومنعمه من خلال الرجوع او التوبة إليه ليغفر الخالق له وليستعين المخلوق بخالقه على نوائب الدهر (24) .

الاستخلاف في الأرض : قيام الحضارة :
     عندما ندرس أي  الحضارة  لا بد من طرح  مقومات هذه الحضارة لتي تقوم عليها  لنتعرف على حركة التاريخ من خلال مسيرة الإنسان على كوكب الأرض ، والمقومات هي : الأرض ( الساحة التاريخية ) والإنسان ( الفاعل ) والكون والسنن الإلهية التي أودعها تعالى في الكون لتنظيم الحياة ضمن خططه ومشيئته .
     قبل أن يخلق تعالى الأجناس البشرية هيأ الأرض التي كانت عبارة عن قطعة من الشمس ثم  انفصلت عنها منذ ملايين من السنين (25) ثم تكونت المحيطات والبحار ثم القارات ، ولما بردت الأرض خلق تعالى وحيدة الخلية ثم الخلايا الأخرى وهكذا إلى اعقد الأحياء من الحيوانات الأسماك والطيور والغابات وغيرها وذلك لتهيئة الأرض لاستقبال الإنسان بعد أن اودع تعالى السنن والقوانين الطبيعية  فيها (   26و27و28 و29 ) .
     خلق تعالى الإنسان ( الجنس البشري الأول ) واستطاع  هذا الإنسان أن يستفيد من القوانين والسنن الكونية وأن يتأقلم مع الجو او المناخ فبدأت مسيرته الحضارية الطويلة وظهرت العلاقة بينه وبين الطبيعة من جهة وعلاقته مع خالقه من جهة أخرى ، ولا بد من أن تسير هاتين العلاقتين جنباً إلى جنب وإلا حدث تفريط وإسراف وفساد .
     برزت العلاقة بين الإنسان والطبيعة ( الكون ) على مدار التاريخ البشري واضحة متمثلة بالحضارة المادية فقد مر الإنسان الأول بعدة مراحل من خلال عيشه وحركته في الأرض  : هناك مرحلة  جمع الطعام من الطبيعة الغنية بالنباتات ثم انتقل إلى مرحلة إنتاج الطعام بعد أن قلت النباتات في محيط بيئته نتيجة للتغيرات المناخية فزرع الأرض واستأنس الحيوان ليستفيد من لبنه وصوف وجلده واهتدى إلى النار كي يتدفأ ويطهي طعامه وصنع أدواته من الحجارة والعظام والمعادن .
     وأما العلاقة بين الإنسان وخالقه فقد ظهرت على شكل إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الشرائع التي تقوي هذه العلاقة وحتى لا تختل المعادلة او ما يسمى مقومات الحضارة وهي : الأرض + الإنسان + إرادة الله عز وجل .
     وخضعت الطبيعة ( الكون ) للإنسان لأن الإنسان سيد ورب الأرض من خلال قانون " التسخير" ( راجع الآيات التي تتحدث عن هذا القانون في رقم (1) من الهامش)  ، أي أن الطبيعة تخضع للإنسان لأن هناك سنناً وقوانين في الطبيعة يستفيد منها الإنسان في حياته على الأرض ولكي تستمر هذه الحياة من خلال صنع ( الحضارة ) ، لكن لكي يستفيد الإنسان اكثر من هذه السنن الطبيعية  ولكي لا يخسر عليه  ان يخضع لسيده ولربه وهو الله عز وجل أي يستفيد من عملية ( الاستخلاف ) ولربط بين هاتين العلاقتين أي علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بربه نحصل على المعادلة التالية وهي تمثل حركة التاريخ أو الحضارة :

                    التسخير + الاستخلاف = العمران
                    الطبيعة + الإنسان والعقيدة = حركة التاريخ ( الحضارة )

     وللإسلام رأي في سقوط الحضارة على ما بينه القرآن الكريم وذلك من خلال وجود خلل في عناصر ومقومات المعادلة السابقة ، فمثلاً أن سيطرة طبقة المترفين أو كما يعبر عنهم القرآن الكريم طبقة " الملأ " على زمام الأمور في المجتمع أو الدولة فأن الحضارة لا محالة ستسقط ( 29) ، وفئة المترفين تنقسم إلى عدة أقسام أو جماعات وشرائح منها الطبقة الحاكمة ثم البطاقة او الملأ  وطبقة التجار  ، وكل طبقة من هذه الطبقات تستغل نفوذها من اجل الكسب المادي والاجتماعي فتصبح الثروة في يد فئة قليلة في الدولة بينما تعاني بقية الطبقات الحرمان والفقر وبالتالي ينتشر الظلم الاجتماعي في الأمة ، ومن نتيجة هذا الظلم أن تهمل الزراعة والري والتجارة وبقية مناحي الدولة فتضعف الدولة وتسقط أمام الطامعين او الغزاة (30) .
     وانحراف رجال الدين او الكهنة سبب آخر من أسباب سقوط الحضارة ، وقد يكون هؤلاء العلماء أو الكهنة أو الأحبار مقربين من السلطة السياسية ويستعان بهم على الفتوى وتنفيذ إرادة الحاكم ، وجمع بعض الكهنة والأحبار  الأموال وتكديس الذهب والفضة والتنافس في اعتلاء سلك المناصب الكنسية والكهنوتية والعبادية ، ويفرضوا الرسوم والضرائب باسم الدين على الناس مما أدى ذلك إلى عدم ثقة الناس بهؤلاء الكهنة ،  ووسعت الهوة والشقة بين البناء الديني ( دور العبادة ) والذي يرمز إلى الخالق وبين الإنسان ، وكان من نتائج هذه الهوة ظهور فئة قادت  المعارضة ضد الكنيسة في أوربا أبان العصور الوسطى ومن ثم ظهر عصر جديد في أوربا على انقاض العصور الوسطى وهو عصر النهضة الأوربية .
     ومن أسباب سقوط الحضارة تقاعس الأمة وسكوتها عن الظلم ، فالأمة تمر بمراحل وهي تواجه الظلم لكنها لا تحس بالظلم كأفراد وجماعات وقد يكون أكثر أفراد هذه الأمة لا يشعرون بالظلم لأنهم يكونون مع الظالمين وهو ما يعبر عنه القرآن ب " الركون " أي الميل إلى الظالمين كما في قوله تعالى :" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " (31) .
     وقد تكون " النار " في الآية الكريمة السابقة كناية عن الحرب الأهلية التي تؤدي إلى السقوط الحضاري والله أعلم ، وهناك نار الآخرة وهي ما تركز عليها الآية الشريفة ، وتصل فئة من المجتمع إلى درجة الاستضعاف المذموم كما في الآية :" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض " ( 32) فهذه الفئة  تستضعف من قبل الفئة الظالمة وتحل صفة الضعف والاستكانة في الأمة ويسلب دورها أي انها لا تسهم في رفع الظلم ومحاربته بل يصل بها الحال أن يصبح من بعض أفرادها " مجرمين " (33و34) .
     عرض القرآن الكريم عوامل وأسباب أخرى لا تقل أهمية وخطورة في انهيار الحضارة وقد تكون متداخلة في  الأسباب  التي مر ذكرها مثل الأسلحة الفتاكة التي صنعها الإنسان لقتل أخيه الإنسان (35) والانحلال الخلقي كما في قصة قوم لوط والانحلال الاقتصادي كما في قوم شعيب (36) .
     وأخيرا لا يوجد في المفهوم الإسلامي عند استعراض عوامل وأسباب السقوط الحضاري التشاؤم كما نظر أصحاب المدارس الأوربية المادية إلى عوامل  سقوط الحضارة ، لكن توجد حتمية تفاؤلية كما قال كما الدين خليل من خلال عودة الأمة إلى بناء ذاتها وتغيير محتواها الداخلي ثم الخارجي ، وقال هذه الحتمية نستخرجها من الآية رقم (140) من سورة آل عمران في قوله تعالى  :" وتلك الأيام نداولها بين الناس " (37) . 
     وأحب أن أضيف هنا أن النظرية الإسلامية إن صح التعبير تقول أن الأقوام سوف ينتهي دورهم وأن أجل الأمم من أجل الأفراد فهو أجل محدود ، وأن الإرادة البشرية لها دور في سقوط الحضارة إلى جانب السنة الإلهية ، وأن أفراد الأمة مسئولون عن أعمالهم وأن هذا السقوط يقرب الأمة إلى العالم الآخر ، ويترك هذا السقوط أثراً يجب الاستفادة منه مثل معرفة فلسفة الحياة والكون ، والاستزادة من السنن الكونية ومعرفة موقع  الإنسان من الكون والحياة وسيره نحو المطلق الأعلى ( الله )  ومعرفة الذين يسببون هذا السقوط ، وأخيراً لا بد من أن ترث أقوام حضارات أقوام آخرين ( 38) .

تقسيم عصور التاريخ :
     الإنسان صانع تاريخه إذ يتفاعل مع بيئته ويسجل أفعاله ويؤرخ زمان أحداثه ، وقد شهدت الأرض أجناسا بشرية عدة خلال عمرها المديد وتختلف هذه الأجناس باختلاف البيئات والأزمنة التاريخية ، لذا قسم علماء التاريخ أو المؤرخون عصور التاريخ إلى عدة أقسام كل عصر يميز عن عصر آخر تمييزاً واضحاً تباعاً للفترات المتباينة وتصنيفاً للعصور حتى يسهل للدارس معرفة تاريخ بني جنسه وغيره من الأجناس البشرية .
     يعتبر هيرودوت اول من أشار إلى تقسيم عصور التاريخ وسار بعده من المؤرخين ، فقد قسم التاريخ إلى تاريخ اليونان وتاريخ الرومان ، وفي العصور الوسطى قسم  المؤرخون الغربيون عصور التاريخ إلى عصور قديمة وعصور حديثة ، ويقصد بالعصور القديمة هي الفترة قبل اعتراف الدولة الرومانية بالديانة النصرانية كدين رسمي للدولة اي قبل سنة 311م ، وتمثل حقبة هذه العصور القديمة الوثنية في أوربا ، وأما العصور الحديثة فهي الفترة التي سادت الديانة النصرانية أرجاء أوربا ( 39) .
     وأما المسلمون فقد قسموا تاريخهم إلى فترتين ، فترة العصر الجاهلي وهي فترة قبل ظهور الإسلام وفيها سادت عبادة الأصنام والأعراف الجاهلية ، وفترة العصر الإسلامي وتبدأ من بعثة النبي (ص) وانتشار الإسلام شرقاً وغرباً ، قسم المؤرخون المسلمون الفترة الثانية إلى عصور منها عصر قوة الخلافة والدولة وعصر ضعف الدولة وانفصال الدويلات عن مركز الخلافة وظهور أكثر من خلافة في عصر واحد مثل الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة والخلافة الأموية الثانية في بلاد الأندلس .
     في عصر التنوير ( القرنين 17-18 م) في أوربا ظهر تقسيم جديد لعصور التاريخ بعد تطور العلوم الإنسانية والمادية ، وهذا التقسيم عبارة عن العصور القديمة وحتى سقوط روما عام (476م) وتمثل تاريخ اليونان والرومان وعلاقتهما بالدول المجاورة ، والعصور الوسطى بعد سقوط روما وحتى سقوط القسطنطينية عام (1453م) على يد المسلمين الأتراك   ، وهي فترة سيطرة الكنيسة على الحياة الدينية والاجتماعية السياسية في أوربا وتسمى فترة العصور المظلمة في نظر معظم مؤرخي عصر التنوير ، لأن الكنيسة حاربت العلوم وأصحابها إلا ما يتفق ومبادئ الكنيسة ، والعصور الحديثة تبدأ من عصر النهضة أي من القرن (15م) وإلى فترة الحرب العالمية الأولى ، وبعض المؤرخين قسم فترة العصور الحديثة إلى قسمين فترة ما قبل الثورة الفرنسية وفترة ما بعد الثورة الفرنسية (40) .
     ظهر تقسيم آخر في أواخر القرن (18م) وبداية القرن (19م) أثر الحملة الفرنسية على مصر وحل رموز حجر رشيد ومعرفة اللغة الهيروغليفية وحل رموز اللغة السومرية في بلاد الرافدين ، وعرف الأوربيون أن التاريخ لا يبدأ من تاريخ اليونان بل يبدأ قبلهم قبل آلاف السنين ، وأن هناك حضارات أرقى من الحضارتين اليونانية والرومانية وهي حضارات الشرق القديم ، لذا قسم التاريخ إلى عصر ما قبل التاريخ أو قبل الكتابة أي قبل ان يدون الإنسان تاريخه وعصر التاريخ أو الكتابة ويبدأ منذ (3000ق.م ) (41) .
     بعد ظهور علم الانثروبلوجيا أي علم الأجناس البشرية ظهر تقسيم آخر للتاريخ وهو تكملة للتقسيم السابق ، وذلك بعد اكتشاف علماء الآثار جماجم بشرية تعود في القدم إلى المليون سنة ، وهي لأجناس بشرية كانت تعيش على سطح الأرض وانقرضت ولم تترك سوى أدوات حجرية ، فقسم العلماء التاريخ إلى عصور ما قبل عصر الكتابة أو العصور الحجرية وهذه العصور تنقسم إلى العصور الحجرية القديمة والعصور الحجرية الوسيطة والعصور الحجرية الحديثة وعصر البرونز وعصر الحديد .
     وعصر الكتابة يبدأ من عصر الحضارات الكبرى التي ظهرت في منطقة الشرق الأدنى ويتضمن هذا العصر العصور القديمة ثم العصور الوسطى ثم العصور الحديثة ومنها العصر المعاصر الذي نعيشه ويسمى عصر الذرة والتكنولوجيا .
     تقسيمات العصور التاريخية السابقة ورثناها من الغرب نتيجة لإعجابنا بالاكتشافات العلمية التي شملت مختلف العلوم ومناحي الحياة في اوربا ، لكن صاحب البصيرة يلاحظ أن هذه التقسيمات قد ركزت على الإنسان في أوربا في الغالب وأغفلت الإنسان خارج اوربا وهو الخطأ الذي وقع به اليهود عندما اعتبروا تاريخهم هو أساس التاريخ الإنساني (42) وعندما ركز المؤرخون الأوربيون على الحضارة اليونانية والرومانية وأهملوا تاريخ الأمم الأخرى وحضارتها وبالذات العصر الأوربي الحديث وذلك لتكريس مفهوم تفوق الرجل الأبيض على بقية الأجناس البشرية (43) .
     والتقسيم المقترح هو عبارة عن أنه يركز على ربط العلاقة بين الإنسان وخالقه وتعزيز هذه العلاقة بينما بدون هذه العلاقة يكون الإنسان في فوضى وانحراف ، وينقسم هذا التقسيم إلى قسم يعالج الأجناس البشرية المنقرضة وقسم يعالج عصر النبوات الكبرى .


الفصل الثاني :
تاريخ الأجناس البشرية المنقرضة

متى بدأت الحياة على الأرض ؟
     الحياة محور حركة التاريخ وبالذات الحياة البشرية وبدون الإنسان لا نستطيع ان نطلق مصطلح " التاريخ " حتى وإن جاز اطلاق تعبير تاريخ الحيوان او النبات او السمك و.....فالإنسان صانع تاريخه ومدون حياة الحيوان والنبات ... .
     الحياة لم تبدأ مع بداية الإنسان إذ أن هناك كائنات حية  عاشت ملايين السنين قبل الإنسان ويعد الإنسان آخر درجة من سلم الثديات ، وقد اختلف المؤرخون في تحديد عمر الأرض (1) لكن يمكن إيجاز ذلك ، القول الأول  : أن عمر الأرض حوالى (200 ) مليون سنة (2)   ، القول الثاني : يعتبر عمر الأرض (500) مليون سنة (3) ، وهناك رأي أو قول ثالث يقول أن الحياة قد بدأت على سطح الأرض في حدود )1000) مليون سنة تقريباً (4) وأنها بدأت في الماء (5-6) .

وقسم علماء طبقات الأرض التاريخ الجيولوجي إلى حقب :
1- حقب الحياة القديمة  من (500-200) مليون سنة وفيها تطورت الحياة من الكائنات البسيطة إلى المعقدة وفي هذه الفترة ظهرت الأسماك ثم البرمائيات والنباتات التي كونت مناجم الفحم في باطن الأرض ، ويفترض العلماء أن هناك حقبين : قديم وفيه ظهرت الحياة وما قبل قديم لا توجد فيها حياة .

2- الحقب المتوسط : (200-70) مليون سنة وظهرت فيها الزواحف العملاقة مثل الديناصورات وغيرها .

3- الحقب الحديث (70 مليون - إلى الآن ) وهو حقب الثدييات  وفي المليون السنة الأخيرة منه ظهر الإنسان (7) .

     من خلال ما سبق يتبين أن الأرض أو  ما يسمى المسرح والأرضية قد شكلت من أجل الإنسان وأن خالق الكون سخر لهذا الإنسان  ما في السموات و الأرض ، فالديناصورات المنقرضة قد تحللت في باطن الأرض وتكونت مادة النفط والغاز التي لها دور في الحياة المعاصرة ، وهذه البحار وما فيها من الأسماك والحيوانات والنباتات البحرية تكونت بعد سلسلة من التطور البيولوجي كي يستفيد منها الإنسان ، فمن جهة البحار تعد وسيلة لاتصال الإنسان بغيره ولما حوله ، ومن جهة يستغل الإنسان هذه البحار في الاستفادة  من منتجاتها العضوية في صنع الأودية ومن منتجاتها السمكية في صنع الطعام ، ولا ننسى دور الأمطار والتكوينات العضوية المتحللة من الكائنات المنقرضة في إعداد التربة التي سوف ينتج الإنسان منه طعامه ، والغطاء النباتي الذي ساد سطح الأرض كون غاز الأوكسجين اللازم للحياة ، ويساعد الغطاء النباتي على توفير الطعام للإنسان والحيوان في مرحلة ما قبل الزراعة وهي مرحلة الجمع الالتقاط ( 8) .

الأدلة على وجود الأجناس المنقرضة :
     ظهر الإنسان قبل مليون سنة تقريباً على سطح الأرض وهو يعد في قمة سلم الكائنات الثدية الحية ، يقول أحد المفسرين في شرح آية ( إن الله اصطفى آدم ونوحاً .....) الاصطفاء هو انتخاب صورة الشيء ولازم ذلك أن يكون مع آدم قوم غيره فيصطفي من بينهم عليهم وليس إلا البشر الأولى غير المجهز بجهاز التعقل فاصطفى آدم من بينهم فجهز بالعقل ثم نسل وكثر نسله وانقرض الأولي الناقص ( 9) وينقل عباس محمود العقاد رأي الفارابي من كتابه ( آراء أله المدينة الفاضلة ) : إن ترتيب هذه الموجودات هو أن تقدم اولاً أخساها ثم الأفضل فالأفضل فأخساها المادة الأولى المشتركة الأفضل منها المعنية ثم النبات ثم الحيوان الغير الناطق ثم الناطق وليس بعده أفضل منه ( 10) ويقول د. احمد حسنين القفل : الأكيد ان الإنسان لم يخلق في الحياة بصورته الحالية ولكنه تطور وتدرج من صنوف من البشر قبله (11) ويقول د. حسين مؤنس : ظهور الإنسان العاقل وكان معاصراً لإنسان نياندرتال ولكن انقرض الثاني ( 12) ونقل العقاد في كتابه رأي احد علماء المسلمين حول الأجناس البشرية المنقرضة وهو الشيخ محمد رضا آل العلامة الاصبهاني الذي قال : لست مما ينافي الذين إذ الذي يجب علينا اعتقاده هو ان جميع الموجودات بأراضيها وسمواتها وما فيها من صنوف المخلوقات من نباتها وحيواناتها والبشر على صنوفها واختلاف لغاتها صنع إله واحد قادر حكيم قد وسع كل شيء علماً واتقنه صنعاً ( 13) .
     في الغرب استطاع العلماء من إثبات جود الأجناس البشرية المنقرضة بعد ان شهدت اوربا وبالذات في القرنين (18-19م) تقدماً ملحوظاً في العلوم الإنسانية والطبيعية ، وقبل ذلك وبالذات في فترة العصور الوسطى لم يخض احد إلا القلة القليلة في موضوع الحياة على سطح الأرض او حتى الخوض في شكل الأرض وكرويتها خوفا من سلطة الكنيسة ، بينما نجد العلماء المسلمين من أشار إلى الأجناس البشرية المنقرضة بصورة مختصرة مثل الفارابي كما مر ذكره ، كذلك الكتاب القدماء مثل هيرودوت (14) .
     ففي عصر التقدم العلمي كما أشرنا في القرنين (18- 19م) ظهرت نظريات علمية تعالج موضوع الجنس البشري منها نظريات النشوء والارتقاء :
1- نظرية لامارك  ( Lamarck  ) وظهرت في بداية القرن التاسع عشر الميلادي وتنص على دور البيئة في تطور وتشكيل الجسم والأعضاء والصفات الوراثية للإنسان .

2- نظرية دارون ( Darwin ) وتسمى نظرية الانتخاب الطبيعي ( The Theory of Natural Selection ) التي ظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي أيضا ، وقد تأثر (دارون ) بنظرية لامارك السابقة ، وألف (دارون) كتاباً باسم (أصل ) الإنسان وملخصه أن هذا الإنسان تطور من نوع سابق له من الحيوانات ، لكن نظريته لقيت معارضة شديدة من بعض العلماء المعاصرين له وبالذات من رجال الكنيسة ( 15) .

     بعد ظهور نظريات النشوء والارتقاء أخذ علماء التشريح في اوربا يحاولون محاولات جادة في الكشف عن الإنسان الأول ( الحفري ، الأحفوري ) ، فقد اكتشفوا جمجمة لإمراة من نوع (نياندرتال ) في عام 1848م لكن لم يهتم بها أحد ، لكن في عام 1856م اكتشف طبيب ألماني عن هيكل بشري في كهف ( نياندرتال ) واعتقد أن هذا الهيكل يرجع لإنسان حديث شاذ ، لكن د. (وليم كنج ، William King  ) استطاع أن يخمن  وجود إنسان بشري قديم قبل الإنسان الحالي وسماه إنسان نياندرتال نسبة إلى الكهف الذي اكتشف فيه ( 16) .
     واكتشف ( أوجين دبوا ، Eugene Dabias  ) الهولندي جمجمة أصغر من جمجمة الإنسان الحالي في جزيرة جاوة الأندونيسية بعد سلسلة من الأبحاث للكشف عن الإنسان البدائي ، وذلك في عام 1891م وسمي هذا الإنسان بإنسان جاوة ، إلا أن الخلافات قد ظهرت بين العلماء الغربيين في أصل هذا الإنسان ، بعضهم قال أنه من أصل قرد ، وبعض آخر قال أنه إنسان ، وفي عام 1939م استطاع د. ( فون سوالد ، Yon King Swald ) حل مشكلة إنسان جاوة بعد ان اكتشف أجزاء من الفك لهذا الإنسان ، وكتب تقريراً بالقول أن هذا الإنسان ليس قرداً بل هو إنسان بدائي يشبه القرد ( 17) .

     وتوالت الكشوف الحفرية للبحث عن اجناس بشرية عاشت في فترات تاريخية موغلة في القدم تصل إلى مليون سنة ولا تنتمي هذه الأجناس مباشرة إلى الإنسان الحديث بصلة ، عرف إنسان الصين الذي اكتشف في عام 1922م وإنسان روديسيا الذي اكتشف في عام 1921م ، والإنسان العاقل الذي اكتشف عام 1942م ، ويعتبر علماء الحفريات الإنسان الحديث ينتمي إليه ( 18) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق