السبت، 26 أكتوبر 2013

عالم ما بعد الموت _ 2



 مساءلة القبر :
     تعد هذه المساءلة أول مرحلة يمر بها الميت في القبر، تقول الروايات إن أشد ساعة على الميت الليلة الأولى بعد دفنه ، ذلك أن الميت ينتقل إلى عالم جديد لا يستطيع أن يستوعبه أو يدركه أو يتعامل معه لأول وهلة وصعوبة ذلك على الميت أنه يسأل عن أشياء من قبل ملكين ما يدخل الرعبة والهيبة في قلبه خاصة بالنسبة للميت العاصي وقد لا يستطيع الإجابة عن الأسئلة على الرغم من سهولة الإجابة .

     اتفق أهل الجمهور والعامة على أن الميت يسأل عن ربه وعن دينه وعن نبيه عن أبي هريرة " إذا قبر الميت فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول ما كان يقول هو عبدالله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وان محمداً عبده ورسوله (53) .


من هما المنكر والنكير ؟
     إنهما من الملائكة الموكلين بسؤال الميت بعد دفنه ، وإليك بعض أحوالهما في هذه الروايات :

     " إذا قبر أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لهما المنكر والآخر النكير... إلى أن يقول :
ويدفنونك فإذا انصرفوا عنك اتاك فتانا القبر منكر ونكير أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف ، إنه ( أي الميت ) الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صيصي البقر وأصواتهما مثل الرعد (56 ) " .


حكمة المساءلة في القبر :
     إن هذه المساءلة تبين موقف الإنسان من ربه ودينه وعن عقائده ، وبشكل عام المؤمن الحق يوافق باطنه ظاهره مما اعتقده من الاعتقادات وعكس ذك المنافق الذي يظهر ما لايبطن لذلك موقف المنافق صعب جداً لأنه لا يستطيع الإجابة عن أسئلة الملكين ، يقول أحد العلماء ان الناس قد أجابوا عن سؤال " ألست بربكم " في عالم الذر بكلمة " بلى " وقد نكث بعض منهم العقد لأن ذلك كان باللسان فقط ( 58 ) .

     وفي هذه المساءلة يرى بعض من الموتى مصيره في عالم البرزخ خاصة المؤمن أو المنافق ، لذا قيل أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ويقال للمؤمن نم نومة العروس ويوسع في قبره مد البصر ويحس بالراحة أو اللذة بعد أن وفق بالإجابة ، عكس الكافر والمنافق وهو يرى سوء عاقبته .


ضغطة القبر :
     معنى ضغطة القبر هو التقاء حافتي القبر على جسد الميت ويكون بعد المساءلة .

     يختلف الضم أو الضغط باختلاف نوع العمل فإذا كان العمل صالحاً كان الضم خفيفاً على صاحبه وإذا كان العمل غير صالح كان الضم شديداً عليه ولا يستثنى من الضمة إلا الأنبياء والأولياء .

     وجاء معنى آخر لضغطة القبر وهو أن الميت بعد ان يرى الناس قد دفنوا جسده وغادروا القبر يريد العودة إلى جسمه المادي لتعلقه الشديد به إلا أنه لا يستطيع الحركة والتنفس وهو في الكفن ويحس بضغط التراب واللحد ، طبعاً يتوهم أنه دخل  في جسده وهذا يطابق رأي العلامة المجلسي حيث يقول وإنما السؤال والضغطة في الأجساد الأصلية وقد يرتفعان لدى بعض المؤمنين (70 ) .


عذاب القبر :
     يواجه العاصي من البشر العذاب في عالم  القبر وقد يكون هذا العذاب دائماً ويستمر في عالم البرزخ وإلى يوم يبعث الناس لأناس معينين لكن الغالبية من الناس يواجهون هذا العذاب على فترات بين القلة والكثرة وبعدها يعيش في راحة .


تجسيم الأعمال في القبر :
     في روايات العامة والخاصة تتجسد العبادات في القبر ، ففي رواية أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال : أن الميت إذا وضع في قبره فأنه يسمع خفق نعالهم ( أي الناس ) حين يولون مدبرين فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عند يمينه وكانت الزكاة عند شماله وكان كل فعل الخيرات من الصدقة والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام ... فيقال له اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أذنت للغروب ( 82) .

     ينقل عن الطبراني في الأوسط في ذكر حال الكافر : وأما الكافر فيؤتى في قبره من قبل رأسه فلا يوجد شيء فيؤتى من قبل رجليه فلا يوجد شيء فيجلس مرعوباً فيقال له : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم وما تشهد به فلا يهتدي لاسمه ... فيضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه ، فيقال له : افتحوا له باباً إلى الجنة فيفتح له باب إلى الجنة فيقال له : هذا منزلك وما أعد الله لك لو كنت أطعته فيزداد حسرة وثبوراً ثم يقال له : افتحوا له باباً إلى النار فيفتح له باب إليها فيقال له : هذا منزلك وما أعد الله لك يزداد حسرة وثبوراً ( 86 ) .

     وفي رواية عن الترمذي عن القبر وأحواله وكيف تكون حال المؤمن والكافر في القبر ، " وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر : لا مرحباً ولا اهلاً أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري .. إلي فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك قال : فيلتئم عليه حتى تلتقي عليه وتختلف أضلاعه .. قال ويقيض الله تعالى له سبعين تنيناً لو أن واحداً منها نفخ في الأرض  ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا فينهشنه وتخدشنه حتى يقضي به الحساب (88) .

     وعن احمد وأبي داود رواية ملخصها : فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الثياب فيقول : ابشر بعذاب الله وسخطه فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث فوالله ما علمتك إلا بطيئاً في طاعة الله سريعاً إلى المعصية قال فيقيض الله له أصم وأبكم ومعه مرزية لو ضرب بها جبل لصار تراباً فيضربه ضربة فيسمعها الخلائق إلا الثقلين ثم يقال : افرشوا له لوحين من نار وافتحوا له باباً إلى النار (89) .

     أعاذنا الله من هذا العذاب ومن مظاهره وأن يهدينا إلى الحق المبين .







الفصل الثالث : عالم البرزخ

مقدمة :
     عالم البرزخ عالم مرتبط بالدنيا أشد الارتباط ، فالإنسان الميت كثيراً ما لا يحس بأنه قد غادر الدنيا  بسبب طبيعة بدنه وتصوراته وانكبابه على الدنيا ؛ لذلك هناك من لا يعرف أنه توفى إلا بعد أيام وهناك من لا يعرف إلا بعد مرور ألف سنة .

     عالم البرزخ عبارة عن كرات مثل الكرة الأرضية ، فما تجده في الأرض تجدها هناك لكن مع تبدل الكثافة وطبيعة الأشياء ، وأما الصورة فهي هي .

     يرى الإنسان نفس المناظر الطبيعية التي يراها على الأرض من جبال وبحار ووديان ... الخ .

     كذلك يرى أصدقاءه الذين غادروا الدنيا ويأتي هؤلاء لاستقباله وتعريفه بالعالم الجديد .

     جاء في البحار : الدنيا ظل لعالم البرزخ ، ما هو فوق تجد صورة له تحت .

     ينقل د. محمود قاسم آراء الغزالي عن النفس والروح بالقول  : فالنفس لديه هي ذلك الجوهر الذي يجمع بين العالمين وهي عالم العقل أي العالم  الإلهي وعالم الحس ( المادي ) .

     ويعتبر الغزالي عالم الحس ظل وخيال للعالم الأول .. لا يوجد شيء في العالم الأول إلا وهو مثال لشيء من ذلك العالم .


معنى البرزخ :
     1- عند الجغرافيين :
     البرزخ عبارة عن قطعة من الأرض ضيقة محصورة بين بحرين واصلة بين برين في الغالب يكون واصلاً بين شبه الجزيرة والقارة (1) .

     2- معنى البرزخ اصطلاحاً :
     هو العالم بين الدنيا والآخرة أو هو عالم القبر كما في  كثير من الروايات ، وقد مرت هذه الرواية عن معنى البرزخ عندما سئل الإمام الصادق عليه السلام ... فقال : ولكن أتخوف عليكم البرزخ . قيل : وما البرزخ ؟ قال : منذ موته إلى يوم القيامة .

     هذا وقد وردت كلمة برزخ في القرآن ثلاث مرات : مرتان بمعنى أن البرزخ هو حد فاصل بين الماء العذب والماء المالح كما في :

     { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً } ( الفرقان : 53 ) .

     { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان } ( الرحمن / 19-20 ) .

     ومرة بمعنى عالم بعد الموت كما في قوله تعالى : { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمال صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } ( المؤمنون : 99-100 ) .

     يسأل سائل : لماذا التركيز على عالمي الدنيا والقيامة في القرآن وعدم ذكر عالم البرزخ إلا قليلاً ؟

     الجواب : إن عالم االبرزخ هو امتداد لعالم الدنيا ، ما يجده في الدنيا يجده في البرزخ ؛ لذلك البعض يموت دون أن يعرف أنه قد مات (2) .

     كذلك عالم البرزخ هو عالم وسط بين الدنيا والآخرة والإنسان يصبغ نفسه بصبغة الدنيا لأنه جاء منها ويذهب بعد ذلك إلى الآخرة بعد أن استعد لها سواء في الدنيا أو البرزخ بعد التكامل  الذي يستمر مع الإنسان في هذه العوالم  .


العوالم والنشآت :
     العوالم مرتبطة بطبيعة الجسم الإنساني والذي يقسمه العلماء وأهل العرفان إلى عدة أنواع ، لكن العلماء بشكل عام يقولون إن الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم : الدنيا ( الحس ) والبرزخ ( المثال ) والعقل ( الآخرة ) .

     جاء في كتاب حدائق الإنس لإبراهيم الزنجاني : إن العوالم ثلاثة :

     عالم الطبيعة : الذي يعيش فيه الإنسان ، والإنسان موجود فيه ، وهذا العالم عبارة عن صورة مادية تجري على نظام الحركة والسكون والتبدل .

     عالم المثال : وهو فوق عالم الطبيعة وجوداً وفيه صور الأشياء بلا مادة ومنها تنزل هذه الحوادث الطبيعية وإليها تعود ، وفيه صور أشياء بلا مادة لحوادث عالم الطبيعة .

     عالم العقل : وهو فوق عالم المثال وجوداً وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير مادة طبيعية ولا صورة له وله نسبة السببية لما في عالم المثال (3) .

     وجاء في كتاب ( الخلود في التراث الثقافي المصري ) عن عوالم بعد الموت ، يقول المؤلف : الكتب التي تساعد الموتى على رحلاتهم بعد الموت وتساعد على سياحتهم في العالم السفلي :
     كتاب الموتى .
     كتاب ما في عالم الآخرة .
     كتاب البوابات أي البوابات التي تفصل أقاليم عالم الآخرة الواحد عن الآخر .
     كتاب الليل وهو كتاب الأقاليم التي تقابل الليل الإثني عشرة .
     كتاب الكهوف ، أي كهوف الآخرة التي كان على المتوفى أن يجتازها في الآخرة .
     كتاب ما في عالم الآخرة وهو يقسم العالم السفلي إلى 12 إقليماً وعلى رأسها إله ولها عاصمة مسكونة بالآلهة والجن والأرواح الموتى ويجري فيها نهر عظيم طبق الأصل من نهر النيل (8) .

     وفي نفس المصدر السابق ينقل المؤلف رأي ابن القيم في أن للأنفس أربعة أدوار أي أربعة عوالم :
     في بطن الأم في ظلمات ثلاث .
     الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر .
     دار البرزخ وهي أوسع من دار الدنيا .
     دار القرار وهي الجنة أو النار فلا دار بعدها (9) .


مستويات وطبقات البرزخ :
     يتألف الكون من مجالات اهتزازية كثيرة ولكن أين تبدأ هذه الاهتزازات وأين تنتهي ؟ لا نعلم ذلك .

     وسكان الأرض يؤثر فيهم مجال الاهتزازات الفيزيقية وتوجد اهتزازات أبطً داخل المجال الأرضي لا يحس بها سكانها .

     بعد الموت تبدأ الاهتزازات في زيادة سرعتها ويبدأ الجسم الأثيري الذي انفصل عن الجسم المادي في الانتقال إلى مجالات أعلى إلى أن يصل إلى العالم الذي يحيا فيه وذلك عن طريق الفكر والرغبة .

     في المجالات الأعلى عندما ينتقل الإنسان إلى مستوى أعلى فإنه يموت بالمفهوم المادي لا يترك جسماً كما في الموتة الأرضية الأولى ، ويستطيع الميت أن يعود إلى الأرض كلما أراد ذلك .

     وحياة الفرد في عملية تطورية مستمرة في هذا الكون ( العالم الأكبر ) أي أنه ينتقل من مجال إلى مجال أعلى عن طريق الفكر الذي يؤثر في الاهتزاز إلى أن يصل إلى الخالق المبدع سبحانه وتعالى { إنا لله وإنا إليه راجعون } (10) .

     والعوالم والمستويات التي تمثل عالم البرزخ تتحرك مع الأرض وتكون جزءاً من فلكها :

     المستوى الأول عبارة عن محطة تصفية وينتظر أعضاء الأسرة فيه ذوي أقاربهم إلى المستوى الثاني وهناك أرواح لا تصل إلى المستوى الأول بل تلازم الأرض فترة قد تطول وهناك أماكن للأطفال لتربيتهم وهناك مصحات للوافدين (11) .

     ينقل أحد المؤلفين رأي الصوفيين عن مستويات التي يتكون فيها البرزخ حيث يعتبرون المستوى الأول مكوناً من مستويات أصغر ربما سبعة مستويات وفي كل مستوى توجد أرواح ذات الدرجة الواحدة من الرقي ، ويعتبرون المستوى الأول أقرب شبهاً للأرض (12) .

هناك مستويات بالمعنى الثاني وهي :
     مستوى الجحيم أو الحياة البائسة .
     مستوى الرغبات .
     الأرض السعيدة ( السمر لاند ) والذي يتحدث عنه الروحيون وتذهب إليه الأرواح الراقية من سكان الأرض .
     مستوى العقل .
     مستوى التجريد .
     مستوى تقابل الجنسين .
     مستوى الاتحاد بين الجنسين وفيه تختفي الخصائص المميزة لكل من الجنسين ويقول بعض الأرواح أنه بعد هذه المستويات توجد السموات العليا غير المحدودة التي تمثل ذروة المجد والنعيم .

     نقلاً عن روح فردريك د.هـ مايرز ( عالم نفس ) فقد ذكرت الوسيطة جيرالدين كاميز رأيه في مؤلفها " الطريق إلى الخلود " : ان رحلة النفس ( الإنسان ) تتطور خلال سبع مراحل :

الرحلة
المستوى
الأولى
مستوى المادة
الثانية
حالة انتقالية
الثالثة
مستوى الخداع
الرابعة
مستوى اللون
الخامسة
مستوى الشعلة
السادسة
مستوى الضوء
السابعة
حالة انعدام الوقت

     مستوى المادة يتكون عن تجارب سواء على الأرض أو في كواكب أخرى .

     مستوى الحالة الانتقالية فهو عبارة عن حياة برزخية تفصل بين كل مستوى وآخر من مستويات الوجود السبعة.

     مستوى الخداع أو الوهم فتشير إليه فترة الأحلام المرتبطة بالحياة على مستوى المادة .

     مستوى اللون هو المستوى الذي لا يكون الوجود فيه محكوماً بالحواس بل بالعقل رأساً ومع ذلك يظل الوجود محتفظاً بشكله ومادته بعد أن تصبح المادة أرق كثيراً من ذي قبل حتى ليصبح وصفها بأنها عبارة عن هواء و بخار المادة ويقع هذا المستوى ضمن نطاق الإقليم الأرض .

     الشعلة الخالصة وتصبح الروح منتبهة  إلى حقيقة الدور المشرق الذي تقوم به في تناسق الأبدية وشاعرة بكل الحياة الشعورية التي تحياها .

     مستوى الضوء الخالص هو الذي فيه تحصل الروح على الإدراك الواعي لكل وجود سابق لها إلى أن تحصل فيما بعد على الإحساس بكل مشاعر الحياة داخل كيان العالم الأرضي وروحه .

     المستوى السابع تندمج الروح بكل عناصرها المتعددة وتمتزج بالعقل الأعظم أو التخيل الإلهي حيث الإدراك العام الذي يطوي الأكوان المتعددة الواحد بعد الآخر ومراتب الوجود المختلفة والماضي  والحاضر والمستقبل ، هناك كل شيء خالد وكل وعي كامل (13) .

     وتطلق الفلسفة الثيوصوفية على كل مستوى من المستويات السبعة إسماً خاصاً :
          المستوى الأرضي يمثل العالم الفيزيقي ( الأرض ) .
          العالم الكوكبي .
          العالم العقلي .
          عالم الإلهام .
          العالم الروحي .
          عالم الجوهر أو الفرد الحي .
          العالم الأعلى ( العالم الإلهي ) (14) .

     وهناك المستوى الرابع الذي يمتاز ببعض المزايا منها موسيقى الأجواء التي تعزفها الطبيعة وهي تحدث من تحركات النجوم والكواكب كما تحدث من اهتزاز أثير الفضاء الذي تتكون منه الأجرام الكونية والذي يهتز في نغم رائع متناسق وتوجد أنغام تعزف على الآلات المألوفة في المستوى الثالث ، ومن المزايا أيضاً إشباع الرغبة الجنسية عن طريق اتحاد العقل والإرادة وهو منعزل عن الجنس .

     كذلك تختلف شخصية الإنسان وشكله نتيجة اهتزازات هذا المستوى .

     وأخيراً يصل المؤلف إلى رأي مفاده أن الجنس ليس كمفهوم أرضي ويوجد في المستويات الأولى إلى الرابع فقط ، وبعدها يختفي الجنس ومفهومه (15) .


الجسد الأثيري :
     الإنسان بشكل عام يجهل طبيعة جسمه ويجهل أن هناك جسماً غير مادي وهو جسم مثالي أو برزخي أو كوكبي وهو الذي ينتقل به إلى عالم ما بعد الموت وبهذا الجسم المثالي ينشط الإنسان ويتحرك إذا نام وحلم وهذا الجسم يختلف عن الجسم المادي حيث أنه ألطف ويخترق الحواجز المادية ، ويصل بينه وبين الجسم المادي بحبل من ضوء يسمى الحبل السري الروحي وبانقطاعه يحدث الموت .

     وهذا الجسم غير مادي ولكنه مادي على المستوى غير المادي ويحمل شعلة العقل والروح وليس هو الروح كما يدعي البعض . ويوجد هذا الجسم الأثيري أيضاً في الحيوان والنبات (16) .

     وهذا الجسم موجود مع لحظة الحمل ويبدأ يجمع حوله المادة الفيزيقية ( الجسم المادي ) فتبطؤ اهتزازاته لذا الجسم االمادي غلاف للجسم الأثيري ، وتتم عملية الحمل وتكوين الجنين خلال الظلام ( سورة الزمر / 6 ) .

     وهذا الجسد اللامادي هو صلة الوصل بين الروح الناطقة الواهبة للحياة وبين الجسد المادي ، ويصف سير أوليفر لودج هذا الجسد الأثيري بأنه وسيط التصال بالأثير والحياة الأخرى وبالله (17) .

     إذا انقطع هذا الحبل السري يعود الجسم المادي إلى الأرض وأما الجسم الأثيري الحامل العقل والروح يعود إلى الوسط الذي جاء منه وقد يبقى الجسم الأثيري فترة تطول أو تقصر في نفس المكان الذي تحدث الوفاة ولكن الروح لا تستجيب لاهتزازات فيزيقية ( أرضية ) وإنما تستجيب لاهتزازات أعلى وبالتالي العقل أيضاً يستجيب لهذه الاهتزازات فيعرف الإنسان أنه قد انتقل إلى عالم آخر (18) .

     الجسم الأثيري غير قابل للبتر أو للفساد وهو لا يهرم ذلك أن الروح والعقل خالدان لا يفنيان وبهما يحس المتوفى عالمه الجديد ويتعامل معه ونفس أعضاء الحس التي كان يحس ويتعامل بها في عالم الدنيا ولكن في إطار الجسد الأثيري والإحساس المادي الذي يحسه الكائن الحي مستمداً من قدرة الإحساس في الجسم الأثيري إذ تنقل هذه القدرة إلى الأعضاء المادية عن طريق الجسد الأثيري للإنسان حاسة روحية توصف أنها حاسة سادسة ولها قدرات متعددة وتتم خلال أدوات الإحساس المادية أو عن طريق غيرها فيرى صاحبها بالعين الأثيرية إن صح التعبير (19)  .

     مع مضي الوقت يستطيع العقل في البرزخ أن يسيطر على الجسم الأثيري ولكن بالنسبة للصالحين إذ بالفكر يكون إزالة جميع العاهات الجسمية ، لذلك المؤمن يعيش في نعيم دائم لأنه يسيطر على عقله نتيجة أعماله الصالحة عكس غيره الذي لا يستطيع أن يتصرف بالفكر ( العقل ) كما في الدنيا كما أنه قد يعاني من الهم والغم وغيرهما من ألوان العذاب النفسي  نتيجة الأمراض الجسمية والنفسية والقلبية التي تصاحب الجسم الأثيري في البرزخ .

     جرى حوار بين النبي صلى الله عليه وآله وشاب تائب على النحو التالي : ( بعد مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وآله ملتمساً المغفرة والتوبة من ذنبه العظيم ) قال النبي صلى الله عليه وآله : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق . قال الشاب : إنها أعظم من الأرضين السبع .

     فقال صلى الله عليه وآله : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السموات ونجومها ومثل العرش والكرسي ... (30) .

     فيفهم من الحديث أن الأرضين السبع عالم قائم بذاته وأنه يشبه أرضنا الدنيا وفيها أناس فلابد أن يكون هذا العالم هو عالم البرزخ أعد للذين يغادرون الدنيا بعد الموت وهذا ينطبق أيضاً على السموات السبع على اعتبار أن لكل أرضاً سماء كما أن لأرضنا الدنيا سماء وهي السماء الدنيا ولذا يجرنا الحديث إلى القول أن السماء الدنيا خارجة عن نظام عالم البرزخ بمعنى أنها تخص أرضنا المشهودة وأن هذه السماء يجري عليها ما يجري على أرضنا من قوانين ولكن أخطأ بعض المفسرين في جعل السماء الدنيا السماء الأولى .

     هناك ملاحظة جديرة بالبيان وهي أن بعض أرواح الموتى لا تنتقل إلى عالم البرزخ مباشرة وقد تعيش فترة بين أرضنا وسمائنا الدنيا سواء أكان الموت مفاجئة لها حيث لم تدرك حقيقة الموت أو أن بعضها انتحرت فلابد من قضاء السنين المقدرة لها للعيش في الدنيا . ويقال إن قوماً غادروا الدنيا من ألف سنة أو يزيد قبل أن يبدأوا يدركون وسطهم الجديد أي عالم البرزخ بسبب انخفاض نموهم ورقيهم العقلي والإيماني (31) .

الشكل ( 1 ) (32)
عرش الرحمن
السماء السابعة
الأرض السابعة
السماء السادسة
الأرض السادسة
السماء الخامسة
الأرض الخامسة
السماء الرابعة
الأرض الرابعة
السماء الثالثة
الأرض الثالثة
السماء الثانية
الأرض الثانية
السماء الأولى
الأرض الأولى
السماء الدنيا
الأرض الدنيا


أحوال عالم البرزخ
     قد تتشابه أحوال عالم البرزخ بمثيلها أحوال عالم الدنيا ذلك أن عالم الدنيا امتداد لعالم البرزخ . الدنيا ظل لعالم البرزخ ما هو فوق تجد صورة له تحت ( البحار ج58 ص11 ) .


أولاً : الحالة الإيمانية :
     يقول تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً في جهنم أولئك هم الخاسرون } ( الأنفال / 37 ) .

     هناك قانون وسنة إلهية وهي تمييز الخبيث من الطيب باعتبار أن الأنسان إما أن يكون طيباً ويتبع أوامر الله تعالى وإما أن يكون خبيثاً يتبع أهواءه .

     وهذه السنة لا تأتي اعتباطاً أو صدفة وإنما من خلال تجارب وابتلاءات في عوالم الوجود الإنساني الذي يعيش فيها .

     وهذه السنة تدل على حالة التطور الإنساني سواء الطيب منه أو الخبيث فالطيب يتطور سواء في الدنيا أو قبلها فهو في عالم الذر أجاب بلى قلباً ولساناً أي اتخذا الله رباً وإلهاً واستمر في مسيره إلى أن جاء إلى الدنيا حيث كمل إيمانه وواصل المسير بعد الموت في عالم البرزخ ثم بعد ذلك في عالم القيامة والبعث .

     كذلك الخبيث لم يكن خبيثاً في الدنيا وإنما مر بتجارب وابتلاءات ولما جاء إلى الدنيا ازداد خبثاً وانحرافاً عن جادة الحق لذلك تتراكم ذنوبه من خلال العوالم التي يعيشها .

     وهذا يجرنا إلى الحديث عن أن للإنسان طاقات هائلة قد يستغلها في الخير وقد يستغلها في الشر { فألهمها فجورها وتقواها } ( الشمس / 8 ) .

     وكل عالم أو حالة التي يعيشها الفرد تمتاز بطاقات وعلى الإنسان أن يفجر هذه الطاقات فإذا كان في عوالم قبل الدنيا واستطاع أن يفجر هذه الطاقات بكل أبعادها أصبع من المعصومين ومن في مرتبتهم خاصة الطاقات الخيرة وإذا فجر  الطاقات الشريرة أصبع من أعوان الشياطين والأبالسة علماً بأنه تعالى يفتح المجال لعباده أن يراجعوا حساباتهم خاصة الإنسان المنحرف والخبيث الذي استغل طاقاته في الانحراف وذلك عن طريق التوبة والمغفرة ... .

     وأما الصنف الوسط الذي يقع بين الصنف الطيب والصنف الخبيث فإنه أيضاً يمر بتجارب وابتلاءات إلى ان يصل إلى صنف ( الملهي عنهم ) كما في الروايات وكل ذلك وفق قانون التمايز كما سوف يمر ذلك .

     روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( قد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة الدجال (33) . والفتنة هنا بمعنى الابتلاءات في عالم البرزخ .


مد البصر :
     كناية عن سعة المكان الذي يحيى به حيث أن الروح تتنقل إلى أي مكان حسب تردد ذبذباتها وقد يكون حسب بصيرته وإدراكه أي كلما كان كامل الإيمان وعارفاً لأمر دينه وموالياً لأولياء الله زادت سعة الإحاطة العلمية لديه وبالتالي يرتفع مقامه ومنزلته .

     وقد يكون مد البصر بمعنى المادي أو أنه يرى الأشياء عن بعد كأنه قريب منها لأن العين البرزخية أقوى وأدق في النظر من العين المادية . في هذا المعنى يخاطب أحد المتوفين صديقه أنه بعد الموت كان بصره حاداً إلى درجة أنه يرى أي كوكب في الفضاء كذلك يرى القارات والمحيطات كأنها قريبة منه (34) .

     إن مد البصر ومفهومه يختلف من عالم إلى آخر ، ويختلف من شخص إلى شخص ، فعالم البرزخ عالم مستقل عن الدنيا وبالتالي تختلف خصائص أعضاء جسمه في الدنيا وهكذا تختلف في عالم البرزخ  ... يقول تعالى : { لقد كنت في غفلة من هذا فبصرك اليوم حديد } ( ق / 22 ) أي أن البصر في يوم القيامة يكون حاداً ونافذاً لا يحجبه شيء .

     في الحقيقة البصر يكون حاداً في البرزخ أيضاً ولكن في القيامة يكون أكثر حدة ونفاذاً لاختلاف خصائص أعضاء الإنسان كذلك لاختلاف ظروف عالمي البرزخ والقيامة .

     قال أحد أولياء الله الذي عانى من مرض شديد وأشرف على الموت وهو يقص قصته ، وينقلها صاحب كتاب " عالم عجيب أرواح " : أنه بعد اشتداد المرض أخذ يبحث عن عيادة طبيب فكان يرى المرضى في العيادة علماًً بأن العيادة تبعد عن منزله مسافة كبيرة إلا أنه رأى ذلك بعينه البرزخية (35) .


الألقاب والكنى :
     ما معنى أن الألقاب والمناصب الدنيوية مثل أمير وملك ورئيس ومدير ... لا توجد في عالم البرزخ ؟

     الجواب : إن الإنسان يحصل على هذه الألقاب بجهده تارة مثل استخدام المكر والخديعة أو الذكاء أو حب الظهور والسيطرة ، وتارة بمعاونة الآخرين له مثل عائلته وقبيلته وجنده ، بينما الإنسان في عالم البرزخ فأن بإيمانه وقوة فكره يؤهلانه ليكون ذا مركز ومكانة مرموقة هناك .

     ينقل صاحب كتاب ( القيامة والقرآن ) أن أحد الأشخاص رأى السلطان محمود الغزنوي في المنام فقال له : لقد كنت رجلاً صالحاً في الدنيا فماذا فعل بك ؟ فأجاب : إن اللقب والعنوان الذي كنت أحمله في الدنيا زال عني واختفى (36) .

     ويحاور مؤلف كتاب ( على حافة العالم الأثيري ) أحد الأرواح عن طريق وسيطة فيقول : لقد لاحظت في محادثاتي الكثيرة مع مختلف الناس أن أولئك الذين كانوا من أهل الرتب على الأرض يهملون ذكرها بتاتاً ولا يذكرون إلا مجرد الإسم واللقب ( العائلة ) جاء الجواب : نعم هذا صحيح فالرتب الأرضية لا معنى لها عندنا وبمجرد أن يصل إلينا حملة هذه الرتب يسقطونها لأنها عديمة المعنى بالنسبة لنا (37) .

     إن الألقاب والرتب الاجتماعية إنما من صنع البشر وأن الناس هناك لا يصنعون هذه الرتب وإنما هناك مقاييس تتعلق بتصورات ومعتقدات الفرد ، إن هناك أرواحاً راقية تحاول توجيه الناس نحو الكمال والرقي .

     ولكن في عالم الجهالة والأنانية فإن هذه الألقاب تكون وبالاً على الإنسان فهو يريد أن يفرض الرتبة الاجتماعية لنفسه على الغير إلا  أنه يفشل فيزداد عذاباً إلى عذابه كما في قصة الملكة الهندية اسمها ( أود – oude ) التي توفيت في فرنسا 1858 ودفنت بها ، دار الحوار بينها وبين الدائرة الروحية المختصة بدراسة الأرواح  :

     س : هل أنت سعيدة ؟
     ج : إني آسفة على الحياة .
     س : ماذا كان شعورك نحو مراسم التكريم التي عملت لجثمانك ؟
     ج : كانت غير كافية فقد كنت ملكة ولم يركع الجميع أمامي .
     س : هل يعطيك المقام الذي كنت تحتلينه على الأرض  الحق في مقام أعلى في العالم الذي أنت فيه الآن ؟
     ج : إنني ملكة دائماً فلترسلوا عبيداً لخدمتي .. إني لا أعلم لماذا يبدو عليهم الآن عدم الاكتراث (38) .


التكامل الروحي :
     التكامل يصاحب الإنسان في العوالم المختلفة وخاصة الروحي منه وأن الإنسان العاصي لا يتكامل وإنما نقول ينحرف أو يزيد في الهبوط إلى أن يصل إلى الدرك الأسفل .

     على أي حال يتبادر إلى الذهن أن التكامل الروحي عبارة عن حالة للإنسان المؤمن الواعي والذي ينجح في الابتلاءات فيتكامل أي يزيد إيمانه ومقامه في كل عالم يعيش فيه .

     ويحتاج الإنسان إلى معلم ومرشد في التكامل الروحي ليس فقط في الدنيا ولكن في البرزخ أيضاً لذلك الإنسان بحاجة إلى التكامل الروحي حتى يصاحب أولياء الله والمعصومين ويزورهم ويتشرف بلقائهم وهذا بحد ذاته يزيد في درجة تكامله .

     إن مجالسة الأولياء بل المعصومين يزيد في تكامل الإنسان . إذا نظرنا نظرة مادية فإن المجالسة والمحادثة واللقاء يجعل المتعلم يتزود بالعلم والأخلاق لدى المعلم لكن المجالسة بمنظار برزخي تختلف عن هذا المفهوم ، مهما كان الإنسان ورعاً ومجتهداً في  عالم الدنيا فإنه بعد  الموت يتكامل لأن الموت عبارة عن تكامل وصعود ، وعكس ذلك بالنسبة للعاصي فهو يتسافل ( الدرك الأسفل ) .

     إذن  بعد الموت يتكامل الإنسان أي يتزايد في قوة الإحساس فيتحرر من المحدودية (39) .


الصنف الثالث :
     جاءت الروايات والأحاديث في أن الناس بعد الموت ينقسمون إلى ثلاث فئات المؤمن – الكافر – الملهي عنهم .

     هناك من يقول وهو دانتي في الكوميديا : هؤلاء هم الذين لم تكن لهم في الدنيا الشجاعة لسلوك الخير والشر فلم يعصوا الله ولم يطيعوه ولم يملوا  في الدنيا إلا لمصلحتهم الذاتية فلم يدخلوا الجنة ولم يدخلوا أعماق الجحيم وكانوا في مدخل الجحيم (42) .

     يقول أحد الموتى لصديقه الحي : إن بعض المستضعفين والجهال الذين سوف تشملهم الشفاعة يوم القيامة ليدخلوا الجنة ، وأما في البرزخ فإنهم يجلسون في سكون وهدوء مثل النائم حتى يوم البعث (46) .


     وقد يترك الإنسان في البرزخ يلهى عنه لأنه ينتظر الزاد من الدنيا (47) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق